تلاحقت الثَّورات الرَّقميَّة في العقدين الأخيرين ممَّا زاد من صعوبة مواكبتها ، واللَّحاق بها، لكن من المهم إحراز بعض نقاط المعرفة في كل ثورةٍ جديدةٍ نتجاوز بها مرحلة محو الأميَّة بقليلٍ.
بدأ العصر الرَّقميُّ من منتصف القرن العشرين، وبدأت معه الأفكار الثَّوريَّة المتتابعة من الإنترنت إلى البرامج المجَّانيَّة مفتوحة المصدر وحتَّى الأندرويد ، ومنصَّات التَّطوير الجماعي التي غيَّرت من تقوقع العالم ، ومركزيَّته، والآن تتبلور فكرةٌ ثورية جديدةٌ من نوعها ستغير من وجه العالم الرَّقميّ ، ومعاملاته .
سلسلة الكتل أو البلوكشين ، فما هي؟
قبل أن نبدأ بالغوص عميقا لا بدَّ من الوقوف على بعض المفاهيم ، والوقائع التي أدَّت بشكلٍ ، أو بآخر لخلق الحاجة للبلوكتشين، فلا يمكن فهم تفاصيلها ، و أهميتها دون المرور على أخطاء ، وعثرات النيظام المالي ، والرَّقمي ما قبل سلاسل الكتل، وهنا تظهر السمة
الأبرز ألا وهي مركزيَّة المال ، والبيانات.
المركزيَّة في العالم المالي ، والرَّقمي
نشأت تقنية سلسلة الكتل مثل انقلابٍ على مركزيَّة العمليَّات المعلوماتيَّة، لتخلق لنا اللَّامركزيَّة في المعاملات الرَّقميَّة .
حين نتواصل ، أو نتفاعل مع أي نظامٍ معلوماتيٍّ حالٍّ نحتاج إلى كمبيوترٍ مركزيٍّ يستلم البيانات ، ويعيد توجيهها، ممَّا يجعله مطَّلعا عليها وقادر ا على التَّحكُّم بها، أي أنَّنا لا نستلم ما هو مرسلٌ لنا بل نستلم نسخة مطابقة له ، وطبعا قد لا يكون ذلك لطيفا في حال إرسال البيانات الحسَّاسة ، أو الصُّور الشَّخصيَّة الخاصَّة ، أو أسرار الشَّركات، لأنَّ مركزيَّة ال سيرفرات تعني إمكانيَّة اختراقها وبالتَّال التَّلاعب بهذه البيانات ، وسرقتها، ينطبق ذلك على كل وسائل التَّواصل الاجتماعي التي تعتمد في عملها على سيرفراتٍ مركزيَّةٍ لتنظيم بيانات مستخدميها، فيرسل المستخدم رسالة لصديقه تمرُّ من خلال سيرفرٍ مركزيٍّ يعيد إرسالها إلى هذا الصَّديق .
فتصبح البيانات حتَّى لو آمنَّا الحماية الكاملة لها ، وعدم الاختراق في خطر الاستخدام من قبل شركات الإعلانات ، أو الإحصاءات ، أو أي طرفٍ آخر مهتمّ بشراء هذه البيانات لأغراضٍ تجاريَّةٍ، أو غير تجاريَّةٍ أو لأسبابٍ تجسُّسيَّةٍ بحتةٍ، ولو شكَّكت بهذا عزيزي القارئ فانظر موجات الغضب من الحكومة الأمريكيَّة ، وتهديدات الحظر والمنع لتطبيق تيك توك المتَّصل مباشرة بسيرفراتٍ مركزيَّةٍ صينيَّةٍ ما يضع الأمن القوميَّ الأمريكيَّ في خطر التَّجسُّس ، وتتبُّع آراء الأمريكيين ، وربَّما التَّأثير على أفكارهم بإعلاناتٍ موجَّهةٍ تناسب عقليَّة كل فردٍ فيهم بنا ء على بياناتهم .
تتكرَّر المركزيَّة في المعاملات الرَّسميَّة لاستخراج الوثائق الموجودة في سيرفرٍ مركزيٍّ واحدٍ، لا بدَّ من الولوج إليه ، ومراسلته ، وطلب وثائقك منه ثمَّ إرسالها، ممَّا يجعل الحكومة هي المتحكمة الوحيدة ببيانات المواطنين، وقد يكون الأمر هينا في بلدٍ ديمقراطيٍّ حكومته شفَّافة لكن ما مصير الشُّعوب في بلادٍ تحكمها نخبةٌ ديكتاتوريَّةٌ قد تمحي بيانات، وتغير ديموغرافيا منطقةٍ بأكملها دون محاسبة ، أو مساءلةٍ ممَّا يلحق الضّرر بالكثير ، والكثير من المواطنين دون قدرتهم على إثبات أحقيتهم ، أو ملكيَّتهم ، أو حتَّى هويَّتهم التي تصبح موضع شكٍّ ، وخلافٍ .
قد تتحوَّل المركزيَّة لخدمةٍ يجرى بيعها أيضا، البنوك وشركات التَّحويل ليسوا إلا سيرفراتٍ مركزيَّة للأموال يمكن نقل المال من خلالها من مكانٍ إلى آخر وفق فروع البنك المتواجدة في كل مكانٍ ، أو عبر شركائها من شركات التَّحويل، ممَّا يجعل ميزتها الوحيدة هي المركزيَّة ، والضَّمان التي استطاعت تحويلها إلى قيمةٍ حقيقيَّةٍ، ولو تجرَّأنا لقلنا إنَّ الكثير من الخدمات هي رابطٌ ومنصَّةٌ بين البائع والمشتري ليس إلا، مثل أوبر لتوصيل السَّيَّارا ت ، أو منصَّات العمل الحر، أي أنَّها تبيع مركزيَّة ، وضمانا ، وقناة عبورٍ تجمع الطَّرفين لا أكثر ، وتأخذ عمولتها لقاء ذلك .
لكن ماذا لو كان هناك آليَّةٌ للتَّواصل ، وإنجاز المعاملات الرَّقميَّة دون سيرفرٍ مركزيٍّ ؟
تخيَّل لو أنَّ السجلَّ المركزيَّ الخاص بملكيّة عقارك موجودٌ في جهةٍ مركزيَّةٍ واحدةٍ يتواجد في مجموعةٍ كبيرةٍ من الأجهزة لديها سجلٌّ عقاريٌّ موحَّدٌ تتشاركه فيما بينها! ستختفي الحاجة إلى سيرفرٍ مركزيٍّ يعتمد عليه الجميع، وسيكون نقل البيانات أسرع ، وسيتحول حفظ البيانات إلى عمليَّةٍ تشاركيَّةٍ، وستكون قادر ا على الوصول إلى سجلك العقاري المثبت في عددٍ أكبر من السيرفراتٍ، وإثبات ملكيَّتك لعقارك ممَّا يحمي حقَّك من الضَّياع ، أو الفقدان بتعطُّل السيرفر المركزي .
اللامركزية مقابل المركزية
هذه الفكرة الثَّوريَّة هي فكرة سلسلة الكتل، وهي تتلخَّص بتحويل التَّبادل المعلوماتي إلى شبكات الند للند peer to peer أي يكون التَّواصل بين كياناتٍ مباشرةٍ دون وسيطٍ بينهم، دون سيرفراتٍ مركزيَّةٍ، وخوفٍ على البيانات من التَّزوير، أو مخاوف الخصوصيَّة .
كيف سيكون شكل العالم دون وسطاء خدمة، أو وسطاء توظيف، دون عمولةٍ وساطةٍ، أو سمسرة؟ ستختفي شركات، وتنشأ عشراتٌ غيرها، سيتحوَّل النَّاس للثقة الرَّقميَّة وفق ما يضمن حقوقهم دون الحاجة إلى طرفٍ ثالثٍ يثق الطَّرفين فيه، وهنا تأتي سلاسل الكتل تحمل الحلَّ بين يديها .
إنَّ السَّبب الأوَّل لفشل المعاملات التجاريَّة بشكلٍ عامٍّ، والرَّقميَّة بشكلٍ خاصٍّ هو عدم الثقة، عدم الثقة بمطابقة مواصفات، أو جودة المنتج، ممَّا يجعل العميل يتردَّد في الشراء .
يكون الحلُّ ببساطةٍ في طرفٍ ثالثٍ ضامنٍ لحقوق الطَّرفين، ويفصل بينهم حال حدوث خلافٍ، وطبعا يحتاج إلى جهدٍ، وموارد، وبالتَّالي حصَّةٍ، ورسوم، فتطول الحلقة وتزداد أسعار الخدمات والمنتجات، وقد يحدث التَّزوير رغم وجود طرفٍ ثالثٍ بتقييماتٍ وهميَّةٍ، أو مراجعاتٍ غير حقيقيَّةٍ تضخم من جودة الخدمة رغم رداءتها .
بهذا تكون اللَّامركزيَّة حلٍّ لأزمة الثقة في التَّعاملات مع أقل قدرٍ من العمولة التي تذهب إلى تمويل الشَّبكة، والمعدنين، فلا يكون هناك طرفٌ ثالثٌ بل تجري العمليَّة بشكلٍ مباشر بين الطَّرفين، والأهمُّ من ذلك هو أقلُّ قدرٍ من المعلومات، وحفظٍ أكبر للخصوصيَّة فلا حاجة لمعرفة الأطراف لأسمائهم، أو كياناتهم، وطبعا هناك ضابطٌ يحفظ حقَّ الطَّرفين بالعديد من الأدوات مثل العقود الذَّكيَّة على سبيل المثال. هنا شرح سلسلة الكثل أو البلوكشين